فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فلو دلت هذه الآية على أن التمسك بالظن غير جائز لزم أن لا يجوز التمسك بهذه الآية، وكل ما يفضي ثبوته إلى نفيه يسقط الاستدلال به. وأجيب بأنا نعلم بالتواتر الظاهر من دين محمد صلى الله عليه وسلم أن التمسك بآيات القرآن جائز. ورد بأن كون العالم المخصص حجة غير معلوم بالتواتر، ثم علل النهي بقوله: {إن السمع والبصر وكل أولئك} إشارة إلى الأعضاء الثلاثة وإن لم تكن من ذوات العقول كقوله: والعيش بعد أولئك الأيام. {كان عنه مسئولًا} قال في الكشاف: {عنه} في موضع الرفع بالفاعلية مثل {غير المغضوب عليهم} [الفاتحة: 7] وفيه نظر لأن المسند إليه الفعل أو شبهه لا يتقدم عليه. والصواب أن يقال: إنه فاعل {مسئولًا} المحذوف والثاني مفسر له. وكيف يسأل عن هذه الجوارح؟ قيل: يسأل صاحبهما عما استعملها فيه لأنها آلات والمستعمل لها هو الروح الإنساني، فإن استعملها في الخيرات استحق الثواب وإلا فالعقاب. وقيل: إنه تعالى ينطق الأعضاء ثم يسألها عن أفعالها. {ولا تمش في الأرض مرحًا} نصب على الحال مع أنه مصدر أي ذا مرح وهو شدة الفرح. وفي وضع المصدر موضع الصفة نوع من التأكيد مثل أتاني ركضًا ونهي عن مشية أهل الخيلاء والكبر. {إنك لن تخرق الأرض} لن تثقبها بشدة وطأتك {ولن تبلغ الجبال طولًا} مصدر في موضع الحال من الفاعل أو المفعول، أو تمييز، أو مفعول له، أو مصدر من معنى تبلغ. بيّن ضعف الآدمي بأنه في حال انخفاضه لا يقدر على خرق الأرض، وحال ارتفاعه لا يقدر على الوصول إلى رؤوس الجبال، فلا يليق به أن يتكبر. وبوجه آخر كأنه قيل له: إنك خلق ضعيف محصور بين حجارة من فوقك وتراب من تحتك، فلا تفعل فعل المقتدر القوي. وقيل: إنه مثل ومعناه: كما أنك لن تخرق الأرض في مشيتك ولن تبلغ الجبال طولًا فكذلك لا تبلغ ما أردت بكبرك وعجبك وفيه يأس للإِنسان من بلوغ إرادته.
{كل ذلك كان سيئه} من قرأ بالإضافة فظاهر لأن المذكور من قوله: {لا تجعل مع الله إلهًا آخر} بعضها أحسن وهو المأمورات وبعضها سيىء وهو المنهيات، فالمعنى أن ما كان من تلك الأشياء سيئًا فإنه مكروه عند الله. ويمكن أن يراد بسيىء تلك الخصال طرف الإفراط أو التفريط. ومن قرأ {سيئة} على التأنيث فقوله: {كل ذلك} إشارة إلى المنهيات خاصة. وقيل: إن الكلام قد تم عند قوله: {وأحسن تأويلًا} وقوله: {كل ذلك} إشارة إلى ما نهى عنه في قوله: {ولا تقف} {ولا تمش} وإنما قال: {سيئة} على التأنيث مع قوله: {مكروهًا} على التذكير لأنه جعل السيئة في معنى الذنب والإثم. قالت المعتزلة: الكراهة نقض الإرادة ففي الآية دلالة على أن المنهيات لا تكون مرادة لله تعالى لأنها مكروهة عنده.
وإذا لم تكن مرادة لم تكن مخلوقة له لأن الخلق بدون الإرادة محال. أجابت الأشاعرة بأن المراد من كراهتها كونها منهيًا عنها، وزيف بأنه عدول عن الظاهر مع لزوم التكرار لأن كونها سيئة يدل على كونها منهية. وأجيب بأنه لابأس بالتكرار لأجل التأكيد {ذلك} الذي ذكر من قوله: {لا تجعل} إلى هذه الغاية وترتقي إلى خمسة وعشرين تكليفًا {مما أوحى إليك ربك من الحكمة} سمي حكمة لأنه كلام محكم لا مدخل فيه للفساد بوجه. روي عن ابن عباس أنها كانت في ألواح موسى عليه السلام. وباصطلاح الحكماء أن الحكمة عبارة عن معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به. لا ريب أن الأمر بالتوحيد رأس الحكمة النظرية وسائر التكاليف مشتملة على أصول مكارم الأخلاق وهي الحكمة العملية، ولقد جعل الله سبحانه فاتحة هذه التكاليف النهي عن الشرك وكذا خاتمتها لأن التوحيد رأس كل حكمة وملاكها، ومن فقده لم ينفعه شيء من العلوم وإن بذ فيها الأقران والأكفاء وحك بيافوخه السماء. وقد راعى في هذا التكرار دقيقة فرتب على الأول كونه مذمومًا مخذولًا وذلك إشارة إلى حال المشرك في الدنيا، ورتب على الثاني أنه يلقى في جهنم ملومًا مدحورًا وأنا حاله في الآخرة. وفي القعود هناك والإلقاء ههنا إشارة إلى أن للإنسان في الدنيا صورة اختيار بخلاف الآخرة والله أعلم بمراده. وقد يفرق بين الذم واللوم فيقال: الذم هو أن يذكر أن الفعل الذي قدم عليه قبيح منكر، واللوم هو أن يقال له لم فعلت مثل هذا الفعل وما الذي حملك عليه وما استفدت من هذا العمل إلاَّ إلحاق الضرر بنفسك. ويفرق بين المخذول والمدحور بأن المخذول عبارة عن الضعيف يقال: تخاذلت أعضاؤه أي ضعفت. والمدحور والطرد عبارة عن الاستخفاف والإهانة. ثم أنكر على المشركين القائلين بأن الملائكة بنات الله فقال: {أفأصفاكم} أي أفخصكم {ربكم} على وجه الخلوص والصفاء {بالبنين} الذين هم أفضل الأولاد {واتخذ من الملائكة} أولادًا {إناثًا إنكم لتقولون قولًا عظيمًا} بإضافة الأولاد إلى من لا يصح له الولد لقدمه وتنزهه عن صفات الأجسام، ثم بأنكم تفضلون عليه أنفسكم حيث تجعلون ما تكرهون وهذا خلاف معقولكم وعادتكم فإن العبيد لا يؤثرون بالأجود والأصفى والسادة بالأدون والأردأ، ثم بجعلكم الملائكة الذين هم أعلى خلق الله على الإطلاق أو التقييد على المذهبين أخس الصنفين وهو الإناث. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)}.
لما ذكر سبحانه النهي عن إتلاف النفوس، أتبعه بالنهي عن إتلاف الأموال، وكان أهمها بالحفظ والرعايا مال اليتيم فقال: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم}.
والنهي عن قربانه مبالغة في النهي عن المباشرة له وإتلافه.
ثم بيّن سبحانه أن النهي عن قربانه، ليس المراد منه النهي عن مباشرته فيما يصلحه ويفسده، بل يجوز لوليّ اليتيم أن يفعل في مال اليتيم ما يصلحه، وذلك يسلتزم مباشرته، فقال: {إِلاَّ بالتى هي أَحْسَنُ} أي: إلاّ بالخصلة التي هي أحسن الخصال، وهي حفظه وطلب الربح فيه والسعي فيما يزيد به.
ثم ذكر الغاية التي للنهي عن قربان مال اليتيم فقال: {حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} أي: لا تقربوه إلاّ بالتي هي أحسن حتى يبلغ اليتيم أشدّه، فإذا بلغ أشدّه كان لكم أن تدفعوه إليه، أو تتصرفوا فيه بإذنه.
وقد تقدّم الكلام على هذا مستوفى في الأنعام {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ} قد مضى الكلام فيه في غير موضع.
قال الزجاج: كل ما أمر الله به ونهى عنه، فهو من العهد، فيدخل في ذلك ما بين العبد وربه، وما بين العباد بعضهم البعض.
والوفاء بالعهد: هو القيام بحفظه على الوجه الشرعي والقانون المرضي، إلاّ إذا دلّ دليل خاص على جواز النقض {إِنَّ العهد كَانَ مَّسْئُولًا} أي: مسئولًا عنه، فالمسئول هنا: هو صاحبه، وقيل: إن العهد يسأل تبكيتًا لناقضه.
{وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ} أي: أتموا الكيل ولا تخسروه وقت كيلكم للناس.
{وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم}.
قال الزجاج: هو ميزان العدل أيّ: ميزان كان من موازين الدراهم وغيرها، وفيه لغتان: ضم القاف، وكسرها، وقيل هو القبّان المسمى بالقرسطون؛ وقيل هو العدل نفسه، وهي لغة الروم، وقيل: لغة سريانية.
وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم في رواية أبي بكر: {القُسطاس} بضم القاف، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بكسر القاف، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى إيفاء الكيل والوزن، وهو مبتدأ، وخبره {خَيْرٌ} أي: خير لكم عند الله وعند الناس، يتأثر عنه حسن الذكر وترغيب الناس في معاملة من كان كذلك {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} أي: أحسن عاقبة، من آل إذا رجع.
ثم أمر سبحانه بإصلاح اللسان والقلب فقال: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي: لا تتبع ما لا تعلم، من قولك: قفوت فلانًا: إذا اتبعت أثره، ومنه قافية الشعر، لأنها تقفو كل بيت، ومنه القبيلة المشهورة بالقافة، لأنهم يتبعون آثار أقدام الناس.
وحكى ابن جرير عن فرقة أنها قالت: قفا وقاف، مثل عثا وعاث.
قال منذر بن سعيد البلوطي: قفا وقاف، مثل جذب وجبذ.
وحكى الكسائي عن بعض القراء أنه قرأ: {تَقُفْ} بضم القاف وسكون الفاء.
وقرأ الفراء بفتح القاف وهي لغة لبعض العرب، وأنكرها أبو حاتم وغيره.
ومعنى الآية: النهي عن أن يقول الإنسان ما لا يعلم، أو يعمل بما لا علم له به، وهذه قضية كلية، وقد جعلها جماعة من المفسرين خاصة بأمور: فقيل: لا تذم أحدًا بما ليس لك به علم؛ وقيل: هي في شهادة الزور؛ وقيل: هي في القذف.
وقال القتيبي: معنى الآية: لا تتبع الحدس والظنون، وهذا صواب، فإن ما عدا ذلك هو العلم؛ وقيل: المراد بالعلم هنا: هو الاعتقاد الراجح المستفاد من مستند قطعيًا كان أو ظنيًا.
قال أبو السعود في تفسيره: واستعماله بهذا المعنى مما لا ينكر شيوعه.
وأقول: إن هذه الآية قد دلت على عدم جواز العمل بما ليس بعلم، ولكنها عامة مخصصة بالأدلة الواردة بجواز العمل بالظنّ كالعمل بالعامّ، وبخبر الواحد، والعمل بالشهادة، والاجتهاد في القبلة وفي جزاء الصيد ونحو ذلك، فلا تخرج من عمومها ومن عموم {إَنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئًا} [يونس: 36].
إلاّ ما قام دليل جواز العمل به، فالعمل بالرأي في مسائل الشرع إن كان لعدم وجود الدليل في الكتاب والسنّة، فقد رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم كما في قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه قاضيًا: «بم تقضي؟ قال بكتاب الله، قال: فإن لم تجد، قال: فبسنّة رسول الله، قال: فإن لم تجد، قال: أجتهد رأيي».
وهو حديث صالح للاحتجاج به كما أوضحنا ذلك في بحث مفرد.
وأما التوثب على الرأي مع وجود الدليل في الكتاب أو السنّة، ولكنه قصر صاحب الرأي عن البحث فجاء برأيه فهو داخل تحت هذا النهي دخولًا أوّليًا، لأنه محض رأي في شرع الله، وبالناس عنه غنىً بكتاب الله سبحانه وبسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم ولم تدع إليه حاجة، على أن الترخيص في الرأي عند عدم وجود الدليل إنما هو رخصة للمجتهد يجوز له أن يعمل به، ولم يدل دليل على أنه يجوز لغيره العمل به، وينزله منزلة مسائل الشرع، وبهذا يتضح لك أتمّ اتضاح، ويظهر لك أكمل ظهور أن هذه الآراء المدوّنة في الكتب الفروعية ليست من الشرع في شيء، والعامل بها على شفا جرف هار، فالمجتهد المستكثر من الرأي قد قفا ما ليس له به علم، والمقلد المسكين العامل برأي ذلك المجتهد قد عمل بما ليس له به علم ولا لمن قلده {ظلمات بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} [النور: 40].
وقد قيل: إن هذه الآية خاصة بالعقائد ولا دليل على ذلك أصلًا.
ثم علل سبحانه النهي عن العمل بما ليس بعلم بقوله: {إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَّسْئُولًا} إشارة إلى الأعضاء الثلاثة، وأجريت مجرى العقلاء لما كانت مسئولة عن أحوالها شاهدة على أصحابها.
وقال الزجاج: إن العرب تعبر عما يعقل وعما لا يعقل ب: أولئك، وأنشد ابن جرير مستدلًا على جواز هذا قول الشاعر:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى ** والعيش بعد أولئك الأيام

واعترض بأن الرواية بعد أولئك الأقوام، وتبعه غيره على هذا الخطأ كصاحب الكشاف.
والضمير في {كان} من قوله: {كَانَ عَنْهُ مَّسْئُولًا} يرجع إلى {كل}، وكذا الضمير في {عنه}، وقيل: الضمير في {كان} يعود إلى القافي المدلول عليه بقوله: {وَلاَ تَقْفُ}.
وقوله: {عنه} في محل رفع لإسناد {مسئولًا} إليه، ورد بما حكاه النحاس من الإجماع على عدم جواز تقديم القائم مقام الفاعل إذا كان جارًا أو مجرورًا.
قيل: والأولى أن يقال: إنه فاعل {مسئولًا} المحذوف، والمذكور مفسر له.
ومعنى سؤال هذه الجوارح: أنه يسأل صاحبها عما استعملها فيه لأنها آلات، والمستعمل لها: هو الروح الإنساني، فإن استعملها في الخير استحق الثواب، وإن استعملها في الشرّ استحق العقاب؛ وقيل: إن الله سبحانه ينطق الأعضاء هذه عند سؤالها فتخبر عما فعله صاحبها.
{وَلاَ تَمْشِ في الأرض مَرَحًا} المرح: قيل: هو شدّة الفرح، وقيل: التكبر في المشي؛ وقيل: تجاوز الإنسان قدره؛ وقيل: الخيلاء في المشي؛ وقيل: البطر والأشر، وقيل: النشاط.
والظاهر أن المراد به هنا: الخيلاء والفخر، قال الزجاج في تفسير الآية: لا تمش في الأرض مختالًا فخورًا، وذكر الأرض مع أن المشي لا يكون إلاّ عليها، أو على ما هو معتمد عليها تأكيدًا وتقريرًا، ولقد أحسن من قال:
ولا تمش فوق الأرض إلاّ تواضعا ** فكم تحتها قوم هم منك أرفع

وإن كنت في عزّ وحرز ومنعة ** فكم مات من قوم هم منك أمنع

والمرح مصدر وقع حالًا، أي: ذا مرح.
وفي وضع المصدر موضع الصفة نوع تأكيد.
وقرأ الجمهور: {مرحًا} بفتح الراء على المصدر.
وحكى يعقوب عن جماعة كسرها على أنه اسم فاعل ثم علل سبحانه هذا النهي فقال: {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض} يقال: خرق الثوب أي: شقه، وخرق الأرض: قطعها، والخرق: الواسع من الأرض، والمعنى: أنك لن تخرق الأرض بمشيك عليها تكبرًا، وفيه تهكم بالمختال المتكبر {وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولًا} أي: ولن تبلغ قدرتك إلى أن تطاول الجبال حتى يكون عظم جثتك حاملًا لك على الكبر والاختيال، فلا قوّة لك حتى تخرق الأرض بالمشي عليها، ولا عظم في بدنك حتى تطاول الجبال، فما الحامل لك على ما أنت فيه؟.
و{طولًا} مصدر في موضع الحال، أو تمييز، أو مفعول له؛ وقيل: المراد بخرق الأرض نقبها، لا قطعها بالمسافة.